لقد اتيت لكم هذه المره بدرس لتعليم كتابه القصه القصيرهفهى من اكثر الهوايات التى احب ان امارسها واردت ان انشرها لكم لتستفيدو كما استفدت منها وهاهو الدرس:موضوعنا هو فن القصة القصيرة
القصة القصيرة ليست مجرد قصة تقع في صفحات قلائل بل هي لون من ألوان الأدب الحديث ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وله خصائص ومميزات شكلية معينة.
الحلقة الأولى:
الخبر والقصة
من المعروف أن القصة تروي خبراً ولكن لا يمكن أن نعتبر كل خبر أو مجموعة من الأخبار قصة .. فلأجل أن يصبح الخبر قصة يجب أن تتوفر فيه خصائص معينة أولها أن يكون له أثر كلي. ولكي نفهم ما نعني بالأثر الكلي دعنا نقرأ المقتطف التالي من خطاب "لليدي ماري مونتاجيو":
"أظن أن هذه هي المرة الأولى التي تأخرت فيها في الكتابة إليك، وقد تعجب إذا عرفت أن تأخيري جاء نتيجة لانشغالي إنشغالاً كلياً. فأنا أقضي ساعات طويلة في ركوب الخيل وصيد الغزال وقد حققت في هذا المضمار مهارة عظيمة جعلتني شديدة الرضا عن نفسي ..
وصاحب السمو الملكي يصيد في "ريتشموند بارك" وأنا من ضمن رفاقه في الصيد، ولعلك بعد ذلك لا تقول إني امرأة عجوز. وقد عاد اللورد بولينجبروك إلى انجلترا، وأغرب الأنباء هنا هي مغازلة اللورد بانهرست للأميرات مما أثار التخمينات في المجتمعات ولكني أنا التي لا يغيب عني شيء أعتقد أن هناك علاقة أكيدة بي اللورد بانهرست ومسز هوارد".
في هذا الخطاب تقص الليدي ماري مونتاجيو عدة أنباء فهي تخبرنا أنها جد مشغولة وأنها تقضي ساعات طويلة في ركوب الخيل وصيد الغزلان وأنها راضية لذلك عن نفسها، ونحن نعلم أيضاً أن ولي العهد يصيد في "ريتشموند بارك" وأن اللورد "بولينجبروك" قد عاد إلى انجلترا وأن "الليدي ماري مونتاجيو" تعتقد أن هناك علاقة بين لورد بانهرست ومسز هوارد. والواقع أن الخطاب مليء بالأخبار، ولكنها رويت بحيث جاء كل خبر منها منفصلاً عن الآخر لا يرتبط به بعلاقة. ومما لا شك فيه أن كل خبر في هذا الخطاب يزودنا بقسط من المعلومات - أي أن لكل خبر معنى .. ولكن هذه الأخبار مجتمعة كما جاءت في الخطاب ليس لها معنى واحداً ولذلك فلا يمكن أن يكون لها أثراً كلياً.
دعنا الآن نقرأ هذا المقتطف من كتاب عن حياة الشاعر "دانتي":
"من المحقق أن سيدة تسمى مادونا بياتريس عاشت فعلاً في فلورنس في عصر دانتي، وكانت تنتمي إلى عائلة فلورنسية تدعى عائلة بوتيناري - وقد عرف عن هذه السيدة الجمال وحسن الخلق ... وأعجب بها دانتي وأحبها ونظم الأغاني في مدحها. وبعد موتها أراد أن يعلي اسمها ومن ثم ظهرت عدة مرات في قصيدته الكبيرة الكوميديا الالهية".
هذا المقتطف أيضاً مليء بالأخبار ... فالكاتب يخبرنا أن سيدة تسمى بياتريس عاشت في فلورنس في عصر دانتي، وأنها كانت جميلة، تنتمي إلى أسرة فلورنسية، وأن دانتي أحبها ولذلك نظم فيها الأغاني في حياتها، وأعلى اسمها بعد مماتها في شعره ... ولو أنك أخذت كل خبر في هذه الأخبار على حدة لما وجدت له معنى. فمثلاً لو أنك قلت إن سيدة تدعى "بياتريس" عاشت في "فلورنس" لما كان لذلك معنى مستقلاً ولو أنك قلت إن سيدة تدعى "بياتريس" كانت جميلة لما كان لذلك معنى في ذاته أيضاً وبالمثل لو قلت إن سيدة تدعى بياتريس كانت تنتمي إلى عائلة فلورنسية ولكنك لو قلت:
إن سيدة تدعى "بياتريس" عاشت في "فلورنس" وأنها كانت تنتمي إلى عائلة "فلورنسية" كانت جميلة وأن "دانتي" أحبها ونظم الشعر فيها إلى آخر ما في المقتطف لوجدت أن هذه الأخبار في مجموعها تعني شيئاً، إذ أن الكاتب قد رواها بحيث يرتبط كل خبر منها بغيره من الأخبار فيكون لمجموعها معنى وبذلك يمكن أن نقول إن لها أثراً كلياً.
وهذا هو أول مستلزمات القصة: أي أن الخبر الذي ترويه يجب أن تتصل تفاصيله أو أجزاؤه بعضها مع البعض بحيث يكون لمجموعها أثراً أو معنى كلياً.
ولكن الأثر أو المعنى الكلي لا يكفي وحده لكي يجعل من الخبر قصة .. فلكي يروي الخبر قصة يجب أن يتوفر فيه شرط آخر ... وهو أن يكون للخبر بداية ووسط ونهاية، أي أن يصوّر ما نسميه "بالحدث".
ولأجل أن نفهم ما نعني بالحدث دعنا نقرأ المقتطف التالي من كتاب عن حياة الرعاة في انجلترا.
"عندما خيم الظلام خرج "بيتر" مع كلبه فوجد الغزلان ما زالت ترعى على الربوة. وتسلل بخفة خلف الأجمة حتى واجهته الربوة وخلف قمتها السماء مليئة بالنجوم واتضحت أما عينيه وهو يتقدم أجسام الغزلان برؤوسها المنحنية، وتراجع قليلاً ثم اختفى في خندق وراء حائط وبدأ يتقدم من جديد. وكانت خطته تنحصر في إثارة خوف الغزلان حتى إذا ما تفرقت في طريقها إلى الغابة مرت به واصطاد إحداها ...
ولم تسمع الغزلان وقع أقدامه حتى أصبح على مبعدة ستين ياردة منها فقفزت عبر الخندق متفرقة في اتجاهات مختلفة ولم يمر في اتجاه الغابة إلا غزال واحد، وراء هذا الغزال أرسل "بيتر" كلبه ..
ومرق الكلب كما يمرق السهم من القوس و "بيتر"، يجري وراءه كما لم يجر من قبل حياته .. ولفترة قصيرة ظهر الغزال على الثلج والكلب يطارده مطاردة حامية، ثم ابتلعهما الظلام، ولكن في أقل من نصف دقيقة وصل إلى مسمع "بيتر" صرخة طويلة باكية لغزال في محنة .. وكان الكلب قد أمسك صيده من إحدى ساقيه الأماميتين فوق الحافر بقليل وشدد قبضته عليها، وكانا يكافحان على الثلج عندما وصل "بيتر" وألقى" بنفسه على ضحيته وغرز سكينة في القصبة الهوائية للغزال، وبعد أن قتله ألقاه على ظهره وعاد إلى البيت لا عبر البوابة ولا الطريق العام وإنما عبر الحقول والأدغال حتى وصل إلى الجهة الخلفية لكوخ أمه. ولم يكن بتلك الجهة باب ولكن كان لها نافذة، وعندما فزعها وفتحتها أمه دفع بالغزال داخل البيت دون أن ينطق بكلمة ثم استدار إلى واجهة البيت ودخل من الباب.
إن الخبر الذي يحتويه هذا المقتطف يختلف عن الخبر السابق، الذي أفدنا منه الشاعر دانتي أحب فتاة فلورنسية تدعى بياتريس وأنها كانت جميلة وأنه نظم الشعر فيها، فهذا مجرد خبر يزودنا بالمعلومات كالأخبار التي نسمعها أو نقرؤها في الصحف. أما خبر اصطياد "بيتر" للغزال فلا يقتصر على تزويدنا بالمعلومات إذ أنه يهدف إلى غرض آخر وهو أن يصوّر حدثا ..
ولو أننا دققنا النظر في هذا الحدث لوجدناه يتكون - كل حدث آخر - من مراحل ثلاث: المرحلة الأولى وهي البداية. والمرحلة الثانية وهي الوسط والمرحلة الثالثة وهي النهاية ..
ففي المرحلة الأولى وهي البداية، أو كما يسميها بعض النقاد الموقف، عرفنا أن الوقت كان ليلاً وأن الغزلان كانت ترعى على الربوة وأن "بيتر" خرج مع كلبه للصيد، أي أنه في هذه المرحلة اجتمعت كل القوى أو العوامل التي ترتب على وجودها معاً موقف معين نشأ منه الحدث.
وتلي ذلك المرحلة الثانية التي نسميها الوسط، وهي تنمو حتماً وبالضرورة من الموقف أو البداية وتتطور إلى سلسلة من النقاط تمثل تعقيداً أو تشابكاً متزايداً بين العوامل أو القوى التي يحتويها الموقف. "فبيتر" يتسلل خلف الأجمة، ثم يتراجع، ثم يتربص في الخندق ثم يتقدم من جديد خلف الحائط، وتسمعه الغزلان فتقفز في اتجاهات مختلفة ويتجه واحد منها إلى الغابة ويلاحقه الكلب وينقض عليه ويمسك بساقه الأمامية إلى أن يأتي "بيتر" فيلقي بنفسه على ضحيته ويغرز سكينة في رقبتها وهكذا يقتل الغزال. ولكن الحدث لا ينتهي هنا ... فبعد أن يقتل "بيتر" الغزال يخبرنا الكاتب أنه يحمله على ظهره ويسير به عبر الحقول والأدغال حتى يصل إلى الجانب الخلفي لكوخ أمه فيقرع نافذة وتفتحها أمه فيدفع بالغزال إلى داخل البيت ثم يستدير إلى واجهة البيت ويدخل من الباب، وهذه هي المرحلة الثالثة أو النهاية وفيها تتجمع كل القوى التي احتواها الموقف أو البداية في نقطة واحدة يتحقق بها الاكتمال للحدث ..
فلو أن الكاتب قد توقف عند النقطة التي قتل فيها "بيتر" الغزال في الغابة لما كان للحدث معنى بل لما كان له وجود فلم يخرج "بيتر" لمجرد قتل الغزال وإنما خرج ليصيده ويعود به إلى البيت ولذلك فإن الحدث ينتهي أو يتكامل عندما يحقق "بيتر" ذلك، عندما يقرع النافذة وتفتحها أمه ويدفع بالغزال إلى داخل البيت ثم يستدير ليدخل هو من الباب، فهذه النقطة بالذات هي السبب في وجود الحدث في الأصل، ولذلك نرى أن كل العوامل التي تجمعت في البداية والتي نشأ عنها موقف معين نما منه الحدث وتطور في الوسط تنتهي بالضرورة إلى هذه النقطة ... وهي النقطة التي يكتسب بها الحدث معناه، ولهذا السبب اصطلح بعض النقاد على تسمية هذه النقطة - وهي التي تمثل نهاية الحدث - بنقطة التنوير ..
يتضح من تحليل المقتطفات الثلاث أن ليس كل خبر يروى قصة. فمن الأخبار ما يمكن أن توضع جنباً إلى جنب (كما في خطاب ليدي منتاجيو) ومع ذلك تظل مجموعة أخبار متفرقة لا تنتج أثراً كلياً - ومن الأخبار ما توضع جنباً إلى جنب (كما في المقتطف عن بياتريس ودانتي) فتنتج أثراً كلياً ومع ذلك تظل مجرد خبر يزودنا بالمعلومات ولكنه لا يروي قصة.
فلقد اتضح لنا أنه لكي يروى الخبر (كقصة اصطياد بيتر للغزال) لا يكفي أن يكون الخبر ذا أثر كلي بل يجب أن يصوّر حدثاً له بداية ووسط ونهاية - أي أنه ينشأ بالضرورة عن موقف معين ويتطور وينمو بالضرورة إلى نقطة معينة.
والفرق بين الخبر الذي يقتصر على تزويدنا بالمعلومات والخبر الذي يصوّر حدثاً هو الفرق بين مجرد الخبر وبين القصة. ولقد يظن البعض أن الفرق بين الخبر والقصة أن الخبر مستمد من الحقيقة وأن القصة من نسيج الخيال، ولكن هذا غير صحيح. فقصة اصطياد (بيتر) للغزال قصة حقيقية حدثت بالفعل ولا أثر للخيال فيها ومع ذلك فقد تحققت لها مقومات القصة لأنها تصوّر حدثاً في حين أن الكثير من القصص أو الحكايات التي تنسجها أخيلة الكتّاب ليست في الواقع قصصاً على الإطلاق، وإنما هي مجرد أخبار تزودنا بالمعلومات ولكنها لا تصوّر حدثاً له بداية ووسط ونهاية.
ولقد يظن البعض أن كل حكاية تنشر أو تروى لا بد وأن لها بداية ووسط ونهاية وإنها بناءً على ذلك لا بد وأن تصوّر حدثاً، أي أنها قصة، ولكن هذا غير الواقع، فالكثير مما ينشر على أنه قصص ليس قصصاً على الإطلاق، بل مجرد أخبار، وهذه الأخبار التي يكتبها الكتّاب وينشرونها على الناس متنكرة في زي قصص كثيرة، بل إن الصحف والمجلات مليئة بها.
توقيع حسن خليل :
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
--------------------------------------------------------------------------------
تتمة الحلقة الأولى:
ولكي ندرك بوضوح الفرق بين الخبر والقصة دعنا نقرأ الحكاية التالية التي نشرت في إحدى الصحف الانجليزية على أنها قصة الأسبوع بعنوان ... (قتل أم انتحار)
(قتل أم انتحار)
حاولت أن أركز اهتمامي في الفيلم الذي يعرض أمامي ولكني يئست وأغلقت عيني وركزت فكري في المشكلة التي تواجهني.
وكانت مشكلتي مشكلة عادية .. كيف أهرب من نتائج حماقتي؟ أما حماقتي فكانت بدورها حماقة عادية. فقد دفعني إدمان الخمر والتعلق بالنساء والمقامرة إلى الاستدانة طيلة السنة الماضية حوالي ألفين من الجنيهات من أصحاب المكتب الذي أعمل به.
وللآن لم يدرك أصحاب العمل أنهم أسدوا إليّ هذه الخدمة، ولكن الحساب السنوي سيجري قريباً وبعد أيام سيصل المحاسبون، وإن لم أقم بعمل سريع، سيكون موقفي وأنا الصرّاف موقفاً محرجاً. ولم يكن أمامي إلا ثلاث طرق، فأنا أستطيع أن أعترف لأصحاب العمل وأطلب الصفح، وأستطيع أن أنتظر حتى يكتشف المحاسبون الاختلاس، أو أستطيع أن أجمع ملابسي وأغادر المدينة في سرعة. وكان علي أن أختار واحداً من هذه الحلول، وإن لم يرق لي أحدها. ولم أكن قد وفقت إلى حل حين خرجت من دار السينما إلى شوارع جلاسجو المضيئة. ولم أكن في عجلة من أمري فلن يواتيني النوم لو عدت إلى بيتي.
وفي الطريق كان هناك رجلاً واقفا، وكدت لا أراه وأنا أتمشى مشغول البال، وكان يستند إلى النافورة، وما كدت أقترب منه حتى تهالك ووقع من على الرصيف إلى الشارع، وسمعت نفير عربة قادمة وجذبت ذراعه بشدة وسألته:
- "وما هذا؟ أتريد أن تقتل نفسك؟"
وأجاب غاضباً:
- "وما دخلك أنت؟"
وإذ ذاك لاحظت أنه ليس مخموراً بل مريضاً.
وأسندته إلى النافورة وقلت له
- "انتظر قليلاً وسأعود حالا" وعندما عدت بقدحين من القهوة من المقهى المجاور كان ما زال واقفاً في مكانه، وقد انحنت رأسه على صدره. وقلت:
- "خذ اشرب هذا القدح"
وخيل إليّ أنه سيرفض ولكنه مد يداً مرتجفة وقال في صوت خشن
- "متشكر"
ورفع رأسه لأول مرة وحدّق في وجهي. وكاد القدح يسقط من يدي من فرط الدهشة. فعندما نظر إليّ خيّل إليّ أنني أنظر في مرآة.
كان الشبه بيننا عجيباً وحتى لحيته التي أطلقها لم تخف هذا الشبه. وفي هذه اللحظة خطر لي حل رائع لمشكلتي .. وأخافتني أفكاري فمنذ دقائق أنقذت حياة هذا الرجل وكان في نيتي أن آخذه إلى مستشفى أو طبيب. والآن أفكر في قتله حتى وأنا أبتسم له! ولم يبد أنه لاحظ الشبه بيننا ولعله كان منشغلاً بمرضه. وقلت:
- "اسمع يا صديقي يبدو أنك مريض، دعني أصحبك إلى بيتك، أين تسكن"
وهز الرجل كتفيه
- "لا بيت لي"
وحاولت أن أخفي فرحي فلا ينم عنه صوتي وقلت
- "إنني أريد مساعدتك، فهل تأتي معي إلى بيتي؟"
وأشرت إلى سيارة أجرة دون أن أنتظر إجابته، وفتحت الباب وانتظرت في ترقب أن يدخل الرجل العربة وتردد هو قليلاً ثم دخل في احتراس.
ولم أتكلم مع ضحيتي المقبلة طيلة الطريق إلى شقتي. وكنت أزن الموضوع في عقلي وأرى إمكانيات اكشتاف مثل هذه الجريمة .. الجريمة الكاملة التي يكتب الكتاب عنها، ولكنها لا تتحقق إلا نادراً.
ولم يكن هناك من سبيل لاكتشاف مثل هذه الجريمة، إلا إذا وجد أقارب للقتيل، فهل لهذا الرجل أقارب أو أصدقاء من المحتمل أن يبدأوا البحث عنه إذا ما اختفى؟ لا أظن ذلك، ولكن لا بد من التأكد.
ودخلنا الشقة دون أن يلحظنا أحد ....
وأشرت إليه بالجلوس على أحد المقاعد، وقلت وأنا أبحث عن الكبريت لإشعال الموقد:
- "لست بطباخ ماهر، ولكني سأعد الطعام، إني أحياناً أود لو كنت متزوجاً لتطبخ لي زوجتي"
وسألته في نبرة طبيعية دون أن أنظر إليه.
- "هل أنت متزوج؟"
وتوقف عن الإجابة لحظة، ثم قال في صوت هادئ:
- "كنت متزوجاً؟"
ونظرت إليه في تساؤل فقال:
- "لقد توفيّت زوجتي منذ ثلاثة أسابيع، ومن يومها وأنا أتجول في الشوارع بلا هدف".
وسألته:
- "ولكن أقاربك .. ألا يزعجهم مسلكك هذا؟"
وهز رأسه ببطء .....
ومسحت على شفتي وأنا أسأل سؤالي الأخير:
- "ولكن لا بد وأن لك أصدقاء يمكن أن تلجأ إليهم ...."
واستمر يهز رأسه. وارتفعت روحي المعنوية ارتفاعاً كبيراً ودون أن أنطق بكلمة أخرى تركت الغرفة ورجعت بكأس من العصير وذوبت فيها كل الحبوب المنومة التي وجدتها في الأنبوبة وقلت:
- "اشرب هذا ريثما أتم إعداد الطعام"
واستغرق في نوم عميق بعد عشر دقائق .. وفي نور حجرتي لم أجد الشبه بيننا كاملاً، ولكنه كان كافياً لخداع أي شخص يطلب إليه التعرف على شخصيتي ... ولم يكن لي بدوري أقارب يقلقهم أمري وهكذا كان الموضوع بسيطاً للغاية.
وخلعت ملابسه وألبسته ملابسي، وحلقت ذقنه ولم يتحرك. وأسفر البحث في ملابسي الجديدة عن محفظة فارغة فيها جواب معنون إلى (جون سميث) على عنوانه في لندن وصورة له ولزوجته ووضعت كل هذه الأشياء في جيبي ومعها ما تبقى لي من نقود. وبعد تفكير كتبت ورقة تركتها على المائدة وكتبت فيها "هذا هو المخرج الوحيد لي" وأمضيتها باسمي "جون رامزي" ...
وأقفلت الغاز ثم فتحته من جديد دون أن أشعله، وألقيت نظرة أخيرة على المكان وأطفأت النور وتركت الشقة.
ولعلك قرأت في الجرائد عن مدى نجاح خطتي فقد ظهرت إحداها بعنوان (مختلس ينتحر) وكان خبر انتحاري المزعوم موضع اهتمام الجرائد لعدة أيام بقيت أثناءها مختبئاً في "جلاسجو" ثم أخذت القطار إلى لندن.
ولكن ما وطأت قدماي أرض المحطة في لندن حتى ألقي القبض علي. وكان من الطبيعي أن أحتج وأن أقول لرجال البوليس أنهم يرتكبون خطأً كبيراً، وأنني جون سميث، بل أنني أبرزت الصورة لأثبت صحة قولي، ولا عجب أن كانوا قد نظروا إليّ نظرتهم إلى مجنون، فقد كان جون سميث مجرماً خطيراً .. لقد أخبرني أن زوجته ماتت، وكان الأخرى أن يخبرني كيف ماتت، كان الأحرى به أن يخبرني أنه قد خنقها.
هذه القصة مختلفة عن قصة الصياد - فهي لا تصور حدثاً ينمو ويتطور إلى أن يبلغ نهايته بل هي مجموعة من الأخبار وضعت جنباً إلى جنب لتبدو في شكل قصة وهذه الأخبار هي:
أولاً: نتعرف على رجل يدعى جون رامزي مغرم بالخمر والنساء والقمار ونعلم أن هذا الرجل قد اختلس ألفين من الجنيهات من مستخدميه كما نعلم أن عليه أن يسلك إحدى سبل ثلاث فإما أن يطلب الصفح من مستخدميه أو يهرب أو ينتظر حتى يكتشف أمره ويوضع في السجن.
ثانياً: يقابل رجلاً آخر يسمى "جون سميث" ماتت زوجته حديثاً وهو مريض وتعيس ويشبه "جون رامزي" كثيراً ويأخذ "رامزي" هذا الرجل إلى شقته ويقتله ونتحل شخصيته.
ثالثاً: يغادر "رامزي" "جلاسجو" إلى "لندن" فيقبض عليه هناك باعتباره "جون سميث" الذي خنق زوجته.
والخبر الأول وهو الذي يصّور المأزق الذي كان جون رامزي فيه بعد اختلاسه للألفي جنيه يمثل بداية القصة أو الموقف. ولكن الخبر الثاني وهو ما يقابل وسط القصة ويصوّر مقابلة رامزي لجون سميث وقتله له وانتحاله لشخصيته فلا ينمو من الموقف بل يروي خبراً جديداً يكاد أن يكون مستقلاً عن البداية ولا يرتبط بها إلا بعامل الصدفة. أما الخبر الثالث أي ما يقابل نهاية القصة ويصوّر القبض على "جون رامزي" باعتباره "جون سميث" الذي قتل زوجته فيروي هو الآخر خبراً جديداً لا ينمو من الخبر السابق ولا يرتبط به إلا بالصدفة أيضاً.
وهكذا نجد أن هذه القصة تتكون من ثلاثة أخبار يرتبط كل منها بالآخر بالصدفة بدل أن يؤدي كل منها إلى الآخر بالضرورة والحتمية، ولذلك فهي لا تصوّر حدثاً ينمو ويتطور من نقطة إلى أخرى وبالتالي فلا يمكن أن نقول أن لهذه القصة بداية ووسط ونهاية ...
والواقع أنه من الخطأ اعتبارها قصة على الإطلاق إذ أنها كما تبيّن لا تعدو أن تكون مجموعة أخبار ربط الكاتب بينها بطريقة مصطنعة ليوهمنا بأنها قصة.
ويسمي أرسطو هذا النوع من القصص (بقصص الأخبار) ويعتبره أحط أنواع القصص.
وفي الحلقة الثانية سنتكلم إن شاء الله عن الشخصيّات.
دمتم بحفظ الله ورعايته.
لا ارجو منكم الا الرد ببيت شعر او دعاء